يتزايد عشاق المطبخ الصيني يوميا مع انتشار هذه المآكل خارج الدائرة الدولية والمدن الكبرى في الغرب، وتمدد الصين الاقتصادي والسياسي في السنوات الأخيرة. ولم تعد هذه المآكل حكرا على ما يعرف بـ«تشاينا تاون» أو الصين الصغيرة التي يمكن زيارتها في لندن أو نيويورك أو كاليفورنيا وغيرها، بل يسهل إيجادها في الكثير من زوايا المدن الغربية والشرقية، حيث ينتشر المهاجرون الصينيون مع عائلاتهم.

ومع تزايد عشاق هذا المطبخ العريق والهام، تتزايد شهرة بعض الأطباق، وخصوصا التي تضم النودلز أو الشعيرية أو لحم البط المغلي بالعسل أو شوربة الوانتون والحامض أو كينغ باو تشيكن، الذي لا يختلف عن السابق في نوعية اللحم وهو لحم الدجاج.

لكن لهذا المطبخ الهام تاريخ عريق يعود إلى أكثر من نصف مليون سنة، أو كما يقول البعض يعود إلى ما يعرف بالعصر الحجري الصيني وما يعرف برجل بكين من الناحية الجيولوجية، حيث بدأ استخدام النار والطبخ لأول مرة وبدأ استغلال الأرز وزراعته واستخدام الشعيرية أو الـ«نودل» على نطاق واسع في البلاد. ويعتبر الـ«نودل» من علامات المطبخ الصيني المعروفة والهامة التي استوحتها بقية المطابخ الآسيوية وطورتها.

وتشتق كلمة «نودل» من كلمة «Nudel» الألمانية التي تعنى المعكرونة، ومن الممكن أن تكون لها صلة بالكلمة اللاتينية «نودوس» (Nodus) التي تعني «العقدة»، ولكن بشكل عام فإن «نودل» «هو مصطلح عام لكل العجائن المسلوقة في الماء المغلي التي تكون على شكل الشعيرية ولا تؤثر مكونات العجينة على التسمية مطلقا» كما تقول الموسوعة الحرة. وكانت عائلة هان الشرقية أول من ابتكر الـ«نودل» بين عام 25 و225 ميلادية. و«في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005 اكتشفت أقدم (نودل) على وجه الأرض وعثر عليها في منطقة لاجيا في شنغهاي الصينية».

على أي حال فإن طريق الحرير أسهم كثيرا في تطور المطبخ الصيني عبر الزمان، إذ جلب الكثير من الأنواع الغريبة على البلاد من الدول المجاورة والبعيدة على حد سواء مثل أوروبا الغربية، وبشكل خاص الهند وإيران. ولا تزال بعض الأطباق حتى الآن تحمل أسماءها الأجنبية الغريبة. وقد جاءت بعض الأنواع إلى الصين مثل السمسم والبازيلاء والبصل والكزبرة من منطقة باكتريا التاريخية، موطن الزرادشتية التي تشمل حاليا أوزباكستان وأفغانستان وطاجكستان. وجاء الخيار من أوروبا الغربية أثناء حكم أسرة هان في عام 202 قبل الميلاد.

وتشير المعلومات المتوفرة أن الصينيين أيام حكم عائلة هان، كانوا مقسمين مطبخيا وطعاميا بين الفقراء والأغنياء أو الطبقة الحاكمة في القصور. وكان من الصعب التمتع بالمحاصيل بسبب فصل الشتاء القاسي والطويل (في الشمال الشرقي) وقلة المياه وضعف التربة. مهما يكن فقد كان التركيز تلك الأيام على الحنطة والشعير والأرز وما يعرف بذيل الثعلب الإيطالي (أحد محاصيل الحبوب) والفاصوليا، بالإضافة إلى الكستنة والإجاص والخوخ والدراقن والبطيخ والمشمش والفريز والعليق الأحمر والخردل والخيزران والتمر الأحمر وما يعرف بنبتة الـ«تاورو». وكان الصينيون وقتها يربون ويأكلون البط والدجاج والإوز والبقر والغنم والإبل والكلاب. أضف إلى ذلك بالطبع السمك والسلاحف والبوم والغزلان وشتى أنواع العصافير والعسل والسكر والملح وصلصة الصويا.

وأثناء حكم عائلة تانغ بين عامي 402 و589 شاع وانتشر المشروب بين السكان المحليين، وخصوصا في الجنوب، وبشكل محدد مشروب الشاي، الذي كانت له فوائده الطبية أيضا. وقد خصص الشاعر لو تونغ آنذاك أشعاره للتغني بالشاي وعالمه. وكتب لو يو لاحقا كتابا في آداب الشاي وتناوله. وكان التجار الأتراك يزورون دور الشاي أول وصولهم إلى المدن الصينية. كما شهدت هذه الفترة استخدام الأكياس للحفاظ على أوراق الشاي والأوراق للف المنتوجات وغيره.

على أي حال فإن المطبخ الصيني في ذلك الوقت كان يرتكز على السمسم والبقول والقمح وبعض الحبوب الأخرى، ولم يكن الأرز جزءا منها.

وأيام عائلة تانغ، شاع استغلال واستخدام الشعير والملح والثوم واللفت والمشمش والفاصوليا والصويا والرمان والإجاص والدراقن والبندق والصنوبر والكستنة ولحم الغنم والدجاج والبط وغير ذلك. وكان الصينيون يأكلون قنديل البحر مع القرفة وفلفل سيشوان والهيل والزنجبيل، ويأكلون المحار والحبار مع الزنجبيل والخل. وكانت العائلة الحاكمة لا تشجع آنذاك استخدام لحم البقر أو العجل لحاجتها للحيوانات في النشاط الزراعي والنقل وغيره من الأشغال الشاقة. ولاحقا حرم بعض الحكام أكل لحم الماشية بسبب اتباعه الديانة البوذية.

وكانت العائلة الحاكمة تستورد آنذاك التين والفستق الحلبي والتمر من إيران والدراقن من سمرقند والصنوبر جذور الجينسينغ من كوريا والمانغو من جنوب شرقي آسيا. وقد جلب الهنود معهم إلى الصين صناعة السكر وزراعة الشمندر بالإضافة إلى زراعة القطن. ومن ذلك الوقت أيضا انتشرت عمليات حفظ الأكل وكانت كثيرة لا تحصى ولا تعد.

وأيام حكم عائلة سونغ، ظهرت الوصفات والأطباق المعروفة ولوائح الطعام والمطاعم، ومآكل الأفراح والأتراح والمهرجانات والاحتفالات وغيره. وفي إلقاء نظرة على مكونات الأطباق يبدو أنها لا تختلف كثيرا عما نعرفه الآن عن المطبخ الصيني، إذ كان يستخدم الفلفل والزنجبيل وصلصلة الصويا والزيت والملح والخل واللفت والبندق والهيل والزيتون وزيت السمسم.

وبالطبع هناك الكثير من أنواع المطابخ الصينية، ويعتمد ذلك على المناطق وطبيعتها وطبيعة وأصول سكانها وخيراتها والأحوال الجوية فيها. وهناك فارق كبير بين الجنوب والشمال، حيث يركز الجنوبيون على الأرز في مطبخهم بينما يركز أهل الشمال على الحنطة. وعادة ما يقسم هذا المطبخ إلى العديد من المدارس:

* مدرسة لو: أو مدرسة شاندونغ الشرقية، وتركز على الأنواع البحرية مع طعم خفيف مع الكثير من أنواع الشوربة. ومن الأنواع البحرية الكثير من القريدس والحبار وخيار البحر والمحار والصدف. ومن الأنواع الأخرى أيضا الذرة والفستق والحبوب والخل. وتعتبر هذه المدرسة من أهم المدارس الصينية على صعيد الطبخ وأكثرها تأثيرا، إذ تأتي منها الكثير من المطابخ كبكين وتيانجين ومطابخ المناطق الشمالية الشرقية.

* مدرسة يانغ: ويعود اسمها إلى اسم إقليم يانغتسو، وتعرف بمدرسة سو. وتتميز هذه المدرسة بمأكولاتها الطرية كما يقال وتنسيقها للألوان والأحجام في الأطباق. ومن أهم أطباقها: البط وسمك النهر والكثير من أنواع الشوربة.

* مدرسة سيشوان: وهي أيضا تحمل اسم إقليمها سيشوان، الذي يعتبر من أهم مصادر الطبخ في الصين والأكثر انتشارا أيضا. وتركز هذه المدرسة على استخدام الخل والفلفل والسمسم والزنجبيل والثوم واليانسون ومعجون الفول. ومن أطباقها المشهورة، طبق «كينغ بوا تشيكين» وطبق الـ«تي سموكد داك» وهو طبق بط مطبوخ على رائحة ورق الشاي.

* مدرسة يوي: وهي معروفة بمدرسة الكانتونيز العائدة إلى إقليم كوانغدونغ في الجنوب. وتعرف هذه المدرسة والمنطقة بطباخيها وكثرة مهاجريها. ومن ركائز هذه المدرسة استخدام البصل الأخضر والسكر والملح والصويا والأرز ونشويات الذرة والخل وشتى أنواع الزيوت والثوم وغيره.

وللمطبخ الصيني خصائصه التي لا تشارك فيها المطابخ الأخرى، كما هو حال بعض المطابخ الأخرى من ناحية التحضير والطعم، ومن علاماته الخاصة التي يصعب تجاهلها وتمنحه مظهره وطعمه ورائحته:

– تقنية الـ«ستير فراي» أو القلي السريع على نار عالية مع كمية قليلة من الزيت في مقلى مرتفع الحرارة جدا، وبعض البهارات والخضار وأحيانا مع بعض أنواع اللحم. وعادة ما يقطع الخضار واللحم إلى قطع صغيرة متساوية الحجم لتتمكن من امتصاص البهارات والمطيبات على نحو متساو. ونتيجة لهذه التقنية يبقى الخليط على طزاجته وعصارته. ويقول بعض الخبراء في الطعام إن هذه التقنية التي بدأت أيام حكم عائلة تانغ كانت ضرورية وبسبب الندرة في الوقود، أو بكلام آخر لتوفير الوقود.

– تقنية استخدام الأنواع المجففة، وهي تقنية قديمة سبقت التجليد والتعليب للحفاظ على الخضار واللحوم وغيرها من النباتات. وقد أصبح اللاحق منتشرا بكثرة نتيجة انضمام الصين إلى العالم الصناعي وبجدارة. وعادة ما تضيف الأنواع المجففة كالفطر الكثير الأنواع، ميزة وطعما خاصين إلى الطبق. والأمر نفسه ينطبق على الأنواع البحرية المجففة مثل المحار والاسكالوب والقريدس.

– التركيز على الأنواع الغريبة مثل زعانف سمك القرش وأعشاش العصافير وأقدام البط وبراعم الخيزران وغيرها، ويقضي الصينيون وقتا لا بأس به لطهي هذه الأنواع، ولأسباب عدة أهمها الطعم والقيمة الغذائية. ولا بد هنا من ذكر أن الصينيين مهتمون جدا بطعم الخضار واللحوم والأنواع «المقرقش» أو الهش.

– استخدام بعض وسائل تناول الطعام القديمة للأكل، مثل الـ«تشوبستيكس» أو الأعواد. وعادة ما تكون هذه الأعواد التي تستخدم أيضا في اليابان وتايوان وكوريا وفيتنام رفيعة ذات طول متساو.. وتصنع هذه الأعواد عادة من خشب الخيزران واللدائن، وأحيانا من العظم والعاج والمعدن. ويتم عادة الإمساك بالأعواد بين إصبعي الإبهام والأصابع الأخرى في يد واحدة لالتقاط الطعام. وتقول المعلومات المتوفرة إن أعواد الأكل ظهرت في الصين «في فترة شانغ بين القرن الثاني عشر والسادس عشر قبل الميلاد»، قبل انتشارها في الكثير من المناطق الآسيوية، وبينما يوجد بعض آثارها في التبت ونيبال، فقد عثر على أعواد أكل مصنوعة من البرونز في بعض القبور يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

تستخدم أعواد الطعام في الكثير من دول العالم، وتختلف آداب الطعام من ثقافة إلى أخرى، لكن هناك آداب عامة منها:

* يجب أن لا تستخدم أعواد الطعام لإصدار أصوات أو لفت الانتباه أو للإشارة إلى الأشخاص. حيث يعتبر اللعب بأعواد الأكل سلوكا سيئا.

* يجب أن لا تستخدم أعواد الأكل من أجل تحريك الأطباق.

* يجب أن لا تستخدم أعواد الأكل للعب بالطعام أو بالأطباق.

* لا تستخدم أعواد الأكل مثل الشوكة عن طريق ثقب الطعام لالتقاطه، وهناك استثناء من أجل تقطيع قطع اللحم أو الخضار الكبيرة.

* يجب عدم ترك أعواد الأكل ملقاة في طبق الطعام.

يستهلك في الصين وحدها نحو 45 مليار زوج من أعواد الأكل سنويا، وهذا يعادل نحو 1.7 مليون متر مكعب من الخشب أو نحو 25 مليون شجرة كاملة النمو. ومن أجل تشجيع الناس على عدم استخدام أعواد الطعام ورميها، فقد رفعت الضريبة 5 في المائة على ثمن أعواد الطعام في الصين في أبريل (نيسان) 2006.

Avatar photo

By حواء مصر

محررة موقع حواء مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *