فكانت العبارة و مشاهد أحياء القاهرة وملاحقة الكاميرا للصغيرة ضحى وهى تخترق شوارع و أزقة القاهرة و تقابل أشكال من البشر فى رحلتها للعودة لدير النحاس حاملة الدواء لأبيها عناصر فيلم حياة أو موت الذى يعد أحد أهم و أجمل أفلام السينما المصرية..
فجأة و بدون سابق إنذار بينما كنت أتابع فى الأيام الأولى من شهر رمضان بعض المسلسلات تحولت فى أذنى الاستغاثة المتكررة فى الفيلم- الدواء فيه سم قاتل- إلى المسلسلات فيها سم قاتل!!
و قبل أن تحملك الظنون بعيدا عزيزى القارئ، لابد أن أشير إلى أهمية الأعمال الدرامية فى الترويح عن النفس و تأصيل القيم المجتمعية و تغيير نمط الأفكار و السلوكيات المرفوضة ، إضافة لكونها موردا اقتصاديا مهما، وبالتالى فأنا لست من المعارضين للدراما الرمضانية.
لكنى بالتأكيد من أشد الرافضين لتحويل الشاشة الصغيرة لمعمل لتفريخ السباب و الاستظراف من خلال الانفلات اللفظى الذى تفشى لدرجة مرعبة فى مسلسلات هذا العام لتدخل فى قاموسنا مجموعة من الألفاظ الممجوجة التى لا تقتل فقط اللغة العربية على شفاه أبنائنا، بل أيضا تدمر ما بقى لنا من منظومة أخلاقية و تلغى من حياتنا كلمة العيب ليصبح الانفلات الخلقى و اللفظى الطبق الرئيسى على مائدتنا اليومية .
فى المعاجم العربية ، الفعل فلت يعنى شرد أو هرب و اسم الفاعل من فلَت َ فالت و يعنى الشاب الذى يفعل ما يحلو له دون ضابط أو رابط أو السفيه بذيء الكلام و عندما يطلق شخص لسانه بالباطل أو فاحش القول يقال عنه لسانه فالت ولعل المثال السابق يوضح مدى ثراء اللغة العربية من حيث اشتقاق الأسماء و التعبير عن الأفكار دون خروج عن قواعد اللياقة .
كذلك تتجلى جماليات اللغة العربية فى القدرة على نحت كلمات تظهر فيها سمة محاكاة الصوت و مخارج الألفاظ للمعنى ، فنقول على سبيل المثال حفيف أوراق الشجر و فحيح الأفعى و خرير الماء ,.
و رغم أن معظمنا يدرك أهمية اللغة العربية و أنها ليست فقط مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار أو التواصل بين الناس والإفصاح عن المشاعر، بل أيضا التجسيد الحى لهوية الشعوب و تراثها الثقافى الشفهى المتمثل الحكايات و الأساطير و الخبرات و النكات و الأمثال سواء فى الماضى أم الحاضر، إلا أنه من المؤسف أننا نسعى اليوم سواء عمدا أم جهلا لتدمير هذه اللغة وإهدار كل موروثنا المتمثل فى منظومة القيم و التفكير التى تحكم علاقتنا بذاتنا و بالعالم ،من خلال الترويج للألفاظ السوقية و السباب، والصمت الذى يصل لدرجة التواطؤ مع من يقصون الكلمات العربية لصالح كلمات أجنبية إدعاء لوجاهة اجتماعية أو تمسحا فى ثقافة ، هى منهم براء..
إن حالة الانفلات اللفظى التى نعيشها الآن فى الشوارع و على صفحات الفيسبوك و فى العمل و كادت تخترق جدران منازلنا تحتاج منا مواجهة صريحة صارمة .
فالواقعية او محاولة تصوير ما يحدث فى المجتمع لا تعنى بالضرورة الترويج للألفاظ الخادشة للحياء و طرق الردح و فرش الملاية، وإلا فبالله عليكم تحت أى بند تندرج مجموعة أفلام الراحل العظيم رائد السينما المصرية الواقعية صلاح أبو سيف ؟!!.
إن اللغة هى الأمة واندثار الكلمات يستتبعه بالضرورة اندثار لكثير من المعانى ، والفن مرآة حضارة الأمم والضمان لحماية تراثها والارتقاء بالعقل و الروح. فإذا ما استهنا بكل ذلك ،كما حدث فى عدد لا بأس به من مسلسلات رمضان هذا العام ،تحول الدواء لسم قاتل..
نقلا عن مجلة نصف الدنيا