يعد الطب التقليدي الصيني العمود الفقري الرئيس للتداوي والعلاج في المجتمع الصيني. وقد انتعشت بعض التقنيات العلاجية والدوائية المستخدمة في الصين بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وتجاوزت حدود الصين الشعبية إلى دول غربية عديدة، كانت تنظر إليها بالأمس القريب بنوع من الريبة والتوجس. أما الآن، فقد انتشرت الحجامة الصينية والوخز بالإبر، والتداوي بالأعشاب الصينية المستخلصة من النباتات والحيوانات، وأصبحت تُدرس في عدد متزايد من المراكز المتخصصة وكليات الطب، ضمن مساقات الطب البديل، وتصدر عنها الكتب الورقية والرقمية، وتخصص لها مواقع إلكترونية، تُسهب في تعداد “فضائلها”، لا سيما مع اكتشاف العديد من التأثيرات الجانبية للعديد من الأدوية الكيميائية المعتمدة في الطب الغربي الأكثر انتشاراً، ما دفع عدداً من المتعصبين للطب الغربي إلى الدعوة إلى إيقاف زحف الطب الصيني التقليدي باعتباره لا يقوم على أدلة علمية صلبة، بل على رصيد تاريخي وملاحظات وممارسات غير مثبتة “غربياً”، ولا هي جميعها قابلةً للقياس.
الحجامة الصينية هي أحد الأشكال القديمة لممارسة الوخز بالإبر، لكنها أضحت آخر صيحات الممارسات الطبية البديلة في عدد من العيادات الأوروبية والأميركية. وتقوم الحجامة الصينية على وضع كؤوس دافئة تُسخن عادةً باستخدام قضبان مشتعلة على مواضع في البشرة وشفطها لمص الدم. وتُحدث الحرارة داخل الكأس فراغاً يجر سطح البشرة باتجاه الأعلى بمعدل سنتيمترين أو أكثر لتحفيز دوران الدم بشكل أفضل وإزالة السموم وإثارة النظام اللمفاوي. وتُمارس الحجامة غالباً على الظهر باعتباره منطقةً يضعف فيها تدفق الدم وتتباطأ حركته وسريانه، لكنها تُجرى أيضاً على الرقبة والعنق والسيقان والأوراك. وتُفضل بعض العيادات استخدام الكؤوس البلاستيكية، بينما تستعمل أخرى الزيت لتحريك الكؤوس الساخنة أعلى البشرة وأسفلها. وهناك أيضاً الحجامة الرطبة أو الدامية، والتي يتم فيها غرز الإبرة في البشرة قبل استخدام الكأس لشفط الدم من البقعة التي وقع وخزها وتسريبه عبرها.
ويمكن أن يصل عدد الكؤوس المستخدمة عند إخضاع كل شخص إلى الحجامة إلى عشرات الكؤوس، مع ترك المريض ينتظر ما بين 5 إلى 20 دقيقة ريثما تحمر البشرة المحصورة داخل الكؤوس. وفي عُرْف الممارسين، كلما كانت البشرة أكثر احمراراً، كان ذلك دليلاً أقوى على خروج السموم الضارة من داخل الجسم. وتبقى تلك البقع والعلامات التي تخلفها الحجامة باديةً على ظهر المريض أو رقبته أو أي منطقة أخرى، لكن هذه العلامات تختفي خلال بضعة أيام.
بديل الإبر
على الرغم من أن البعض يتوجس من الخضوع للحجامة أو يتخيل أنها مؤلمةً، فإن الممارسين والمتعودين على الخضوع لها واستخدامها ضمن الوسائل الوقائية أو العلاجية يصفونها بالعملية اللطيفة والرقيقة. وفي الولايات المتحدة الأميركية، ليس هناك أي متطلبات للترخيص للمعالجين بممارسة الحجامة. كما أن المنتجات المستخدمة في الحجامة تُباع في الكثير من الأماكن التقليدية، وحتى الافتراضية كموقع “أمازون دوت كوم”. وتكلف حصة علاجية واحدة للحجامة لا تتعدى مدتها ساعة واحدة في أميركا 55 دولاراً، وذلك على ذمة الدكتورة جيسي ماكلين، مديرة التعليم بالجمعية الدولية للعلاج بالحجامة. أما حصة تقليدية للوخز بالإبر، فتُكلف عموماً ما بين 70 إلى 120 دولاراً. وفي آسيا، يستخدم المرضى الحجامة كعلاج في البيت، إلى جانب استعمالها كجزء من علاجات الطب الصيني التقليدي في العيادات.
ويقول الدكتور ليكسينج لاو، مدير برنامج بحوث الطب الصيني التقليدي في مركز الطب التكاملي في جامعة ماريلاند في بالتيمور، إن مرضاه يقتنعون بالحجامة بمجرد تجريبها، فمعظمهم يفضلها على التقنية التقليدية في الوخز بالإبر. ومن جهتها، تقول ماكلين “على الرغم من أنه يصعب تعقب مدى استخدام الحجامة وشعبيتها في الولايات المتحدة الأميركية، فإن أفراد المجموعة الذين أعمل معهم لاحظوا جميعهم أن الإقبال عليها تنامى بشكل كبير في السنوات الأخيرة الماضية، وأن الطلبات بشأنها تزايدت من لدُن الممارسين المعتمدين، وأيضاً من قبل المستهلكين الذين أبدى عدد كبير منهم رغبته في تعلم ممارستها”.
استخدام كثير وعلم قليل
يقول لاو إنه يعاين كل يوم مرضى تتحسن حالاتهم ويتعافون من أمراضهم بعد الخضوع للحجامة. فهذه التقنية التقليدية، يضيف لاو، مفيدة جداً في محاربة الآلام العضلية والفقرية التي تُصيب على الخصوص الظهر والرقبة والكتفين والوركين. كما يمكن استخدامها لعلاج بعض الاضطرابات الداخلية مثل آلام المعدة والتقيؤ والإسهال والربو والسعال. ويدعي بعض ممارسي الحجامة أنها تُساعد كذلك على علاج تشكيلة متنوعة من الأمراض مثل العقم والآلام ونزلات البرد والإمساك والأرق وإدمان المخدرات. كما يدعي آخرون أنها تقي من الكثير من الأمراض.
وتنتشر هذه الاعتقادات والادعاءات طبعاً من دون أن يكون لها أي سند علمي صريح يُظهر الآثار الصحية للحجامة. وفي سنة 2010، مول برنامج البحث الأساسي الوطني للصين والمركز الوطني للطب البديل والتكميلي التابع للمعاهد الوطنية الأميركية دراسةً مقارنة تم خلالها تحليل بيانات 550 دراسة سريرية حول الحجامة ما بين 1959 و2008، أُجري معظمها في الصين. ووجدت هذه الدراسة أنه على الرغم من أن الحجامة تبدو ذات فعالية محتملة على مستوى مقاومة الألم، والهربس العصبي (مرض فيروسي مؤلم يتميز بظهور طفح جلدي على طول العصب المصاب، ولهذا يسمى أيضاً بالحزام الناري لكونه يميز المنطقة المصابة وكأنها طوق ناري يتميز بلونه شديد الاحمرار بشكل يميزه عن بقية أجزاء الجسم) وأمراض أخرى، فإنه ما زالت هناك حاجة إلى إجراء المزيد من البحوث أفضل جودةً ودقةً وموثوقيةً. وتقول الجمعية الأميركية للسرطان إنه ليس هناك أي دليل علمي متاح يؤكد الفوائد الصحية للحجامة. كما ترى أن قصص النجاح التي تُروى عن علاج الحجامة لبعض الأمراض تقوم بالأساس على ملاحظات ومؤشرات غير قائمة على أدلة علمية صلبة.
أصبح التداوي بتقنيات الطب التقليدي كالحجامة من بين عناصر الجذب السياحية التي تُغري كل سائح للصين من الغربيين إلى تجريبها. ويُدرك القائمون على الشأن السياحي بالصين ذلك، لذلك يُدمجون في برامجهم التي تستهدف الأفواج السياحية فقرات استراحة أثناء التجوال بالمدينة المحرمة وسور الصين العظيم من أجل الاستماع إلى محاضرات توعوية وتثقيفية عن الطب الصيني التقليدي، ويعقبون هذه المحاضرات بزيارات ميدانية إلى العيادات التي تمارس الحجامة، ما يجعل السياحة العلاجية أحد أنواع السياحة القائمة بذاتها في الصين. ويقول ديفيد زهانج، المدير العام لمركز التدليك السعيد في بكين، إنه عندما يشرح طريقة ممارسة الحجامة للغربيين، يُلاحظ في الوهلة الأولى أنهم لا يتجاوبون مع شرحه ولا يفهمون كثيراً ما يقول، لكنهم يقعون في حب الحجامة مباشرةً بعد تجريب الخضوع لها.
رطبة وجافة
الحجامة هي العلاج عن طريق مص وتسريب الدم عبر استعمال الكؤوس. وهي طريقة طبية قديمة كانت تستخدم لعلاج كثير من الأمراض في وقت نُدرة العلاجات. وهي نوعان: الحجامة الرطبة والحجامه الجافة، فالرطبة تقوم على إخراج الدم الفاسد الذي يحمل كريات الدم الحمراء الهرمة أو الشوائب الدموية الرديئة التي تصل إلى الدم من جراء استعمال أدوية أو كيماويات. ويتراكم هذا الدم الفاسد ويركد ويتجمع في مناطق معينه أثناء دورانه بالجسم، خصوصاً في منطقة أعلى الظهر، فيكون استخراجه هو أفضل طريقة للتخلص منه بغية تسهيل تدفق الدم النقي الجديد، وإنتاج كريات دم حمراء جديدة تحل مكان الفاسدة، فيصبح الدم حيوياً وصحياً أكثر، ويستعيد الجسم توازنه الطبيعي من جديد، وتنشط عملياته وقدراته المناعية. ويتم ذلك غالباً عن طريق شرط الجلد بمحجم أو مشرط بجروح صغيرة، ووضع كؤوس الهواء الجافة فوقها ثم تسريب الدماء الفاسدة عبر إحداث ضغط ماص للدم والتراكمات الدموية بالمنطقة المحجومة. ولا تختلف الحجامة الجافة كثيراً عن الرطبة، والفرق الوحيد هو أنها تتم من دون شرط الجلد أو وخزه. وأحياناً لا يتم فيها تسريب الدم، ولكن يُكتفى بتغيير ضغط الجسم الداخلي والخارجي، مع ترك الكؤوس على شكل بقع دائرية حمراء على الجلد تتلاشى بعد فترة قصيرة.