هناك عطور تتبخر مع أول نسمة، تظهر لموسم وتختفي في الموسم التالي لأن تأثيرها يكون ضعيفا. وهناك عطور أيقونية تحفر اسمها في الوجدان وتحقق لأصحابها الملايين على مر السنين. فالعطور، إلى جانب مستحضرات التجميل، هي أكسجين بيوت الأزياء والشركات التي تتنفس منها وتحقق من ورائها الأرباح، التي تخول لها الإبداع في مجالات أخرى. لهذا فإن الطبيعي أن تعتمد على صانع هذه العطور، أو الأنف، كما يطلق عليه في هذا المجال، لكي يمنحها خلطة لا تعترف بزمن. وفي خضم البحث اللامتناهي عن هذه الخلطة تزكم أنوفنا في كل موسم العشرات من العطور.
في عام 2011 مثلا، تم إطلاق أكثر من ألف عطر جديد، أي بمعدل 3 عطور في اليوم، مقابل 17 عطر في عام 1973، و60 في عام 1988، و142 في عام 1996. والسؤال الذي يقفز إلى الذهن هو أين هذه العطور؟ وما هو مصيرها؟
والحقيقة أن الجواب لا يهم المستهلك بقدر ما يهم المصنع، الذي سيعتبرها محاولات باءت بالفشل، عليه أن يطورها. في المقابل، هناك عطور كلاسيكية تم توارثها أما عن جدة تثير الخيال وتستحضر فترات سعيدة. وفي الغالب فإن هذه العطور لا تدخل في إطار «آخر صيحات الموضة» لكنها على العكس منها، صمدت لنحو قرن من الزمن تقريبا، ولم يخف أريجها.
السبب أنها هذه العطور الكلاسيكية ابتكرها كبار صانعي العطور، قبل أن يصبح العطر سلعة، ووضعوا فيها عصارة جهدهم وعصارات أغلى الزيوت وأفخم الخلاصات. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن لا تميز بين عطري «شانيل 5» و«شاليمار» أو بين عطري «أربيج» و«جوي»، أو بين عطري «أوبيوم» و«ديوريسيمو».
من عشاق العطور الخاصة الذين كرسوا حياتهم للعطور الفاخرة فرانسيس هوبر، صاحب محل «ورلد بيوتي» الذي لا يبيع فيه سوى العطور النادرة وعطور كلاسيكية يصعب العثور عليها أحيانا. ويؤكد فرانسيس أن زبوناته لسن كهلات أو من جيل الجدات، بل كثيرات منهن شابات في مقتبل العمر، وأكثر العطور التي يطلبنها تنتمي إلى العصر الذهبي لصناعة العطور، مثل:
1 – «أو إيمبريال» (Eau Imperial) «غيرلان» 1853:
كما يوحي الاسم، لهذا العطر علاقة بالأسرة المالكة، فقد صنعه غيرلان للإمبراطورة أوجيني، آخر ملكة لفرنسا، عام 1853. وكان يتطيب زوجها نابليون الثالث به أيضا، مما جعله أول عطر يصلح للجنسين. ولا يزال العطر يقدم حتى الآن في الزجاجة الأصلية. ولم يتم رسم النحل على الزجاجة من أجل التزيين فحسب، بل للإشارة إلى أنها كانت رمزا لمنزل نابليون، الذي كان يتفاءل بها ويعتبرها فأل سعد.
2 – عطر «شانيل نمبر 5» (5 Chanel No) في عام 1921:
بعده أصبح رقم «5» رقم حظ «شانيل»، حيث تقول القصة إن صانعه قام بعدة اختبارات كانت ترفضها إلى أن وصل إلى الخلطة الخامسة التي شدتها. وكان إعطاء عطرها رقما بدلا من اسم، كما جرت العادة، خطوة مبتكرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، وكذلك كان اختيارها لشكل القارورة الهندسي الخالي من أي زخرفة. ويعد عطر «شانيل 5»، الذي يوصف بأن رائحته مثل عطر زهور لا توجد في الواقع، أشهر عطر في العالم. وتُعرض زجاجة العطر بشكل دائم في متحف نيويورك للفن الحديث. وقد وصلت مكانته الأيقونية إلى حد أن آندي وارهول احتفل به من خلال مجموعة من المطبوعات المصنوعة بطريقة طباعة الشاشة الحريرية. ونُقل على لسان مارلين مونرو أنه الشيء الوحيد الذي لا يفارقها في نومها.
3 – «شاليمار» (Shalimar) «غيرلان» 1925:
إذا تساءلت يوما عن رائحة الغواية والإثارة، فإن العارفين في فن العطور يؤكدون أن السيد غيرلان أول من توصل إليها عندما ابتكر «شاليمار». إنه أول عطر في العالم يحتوي على رائحة الفانيلا الكريمية الحلوة وإيثيل الفانيلين. ويظل علامة بارزة بين العطور الحسية الشرقية حتى يومنا هذا.
وتقول القصة إن العطر خرج إلى الوجود بفضل إخلاص أحد أباطرة المغول لزوجته ولحدائق شاليمار حيث تقابلا. بعد ذلك أقام الإمبراطور المغولي شاه جيهان تاج محل تكريما لذكرى زوجته. وتتخذ الزجاجة شكل نافورة تعمل في تلك الحدائق، وسدادة الزجاجة على شكل مروحة شرقية من سعف النخيل. وتم تقديم عطر «شاليمار» لأول مرة في معرض فن الديكور بباريس عام 1925، وجسد روح الحفل في ذلك العقد.
4 – «أربيج» (Arpege) «لانفان» عام 1927:
أهدت جين لانفان عطر «أربيج»، الذي وصف بأنه عطر لألف زهرة، إلى ابنتها الموسيقية ماري بلانش. واشتق الاسم من المصطلح الموسيقي «أربيجو». وتزين الزجاجة، التي تعرف في فرنسا باسم الزجاجة السوداء، صورة ذهبية لكل من لانفان الأم وماري بلانش البنت، وهي مأخوذة من صورة لمصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيربيه لتخاطب كل الأجيال.
5- «جوي» (Joy) من «جون باتو» عام 1930:
ربما يكون «جوي» هو أول عطر ظهر كمضاد للأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم آنذاك، أو ربما يكون من سوء حظه أنه أطلق في ذلك التوقيت. فقد كان عبارة عن باقة من الزهور تدعو إلى التفاؤل والسعادة، لكنه بعد أن صنعه صاحبه مصمم الأزياء المعروف، جون باتو، ليكون هدية لعملائه الأثرياء الأميركيين، خسر أكثرهم ثروتهم عند انهيار البورصة عام 1929، ولم يعد بمقدورهم تحمل تكلفة أزيائه الراقية، ومن ثم فقدوا فرصة الحصول على العطر أيضا. ويقال إن صناعة أوقية من عطر «جوي» تطلب ألف زهرة ياسمين و28 دزينة من الورود. وظل لوقت طويل واحدا من أغلى العطور في العالم نظرا لغناه بالياسمين. ولا مثيل لهذا العطر إلا قليلا.
6 – «ميس ديور» (Miss Dior) من «كريستيان ديور» عام 1947:
كان عام 1947 عاما سعيدا بالنسبة لكريستيان ديور. فيه قدم مجموعته الشهيرة «ذي نيو لوك» التي أطلقته إلى العالمية، وفيه أيضا أطلق أول عطوره. العطر ذو المظهر الشجري الطحلبي بفضل الأوراق الخضراء، يعد عطرا فاخرا بكل ما في الكلمة من معنى، فأسفل الزجاجة يوجد شكل مفصل لبدلة ذات كتفين مربعين. وتمنح المربعات البيضاء والسوداء البارزة على الزجاج غير الشفاف الشعور بأنه مثل القماش. ويوحي الاسم «ميس ديور» بشابة أنيقة، لهذا اختاره ديور، عوض اسم شقيقته كما كان يظن كثيرون.
7 – «لير دي تون» (L’air Du Temps) «نينا ريتشي» 1948 :
هناك كثير من المشاعر المرتبطة ببعض العطور الكلاسيكية، وعطر «يثير إحساسا بالزمن الذي ظهر فيه، والتحرر الذي أعقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا. فبعد 3 سنوات على انتهائها ظهر العطر وصورة حمامتين مرسومتين على غطاء الزجاجة غير الشفافة من «لاليك» لترمزا للسلام.
إضافة إلى مزيج البرغموت والمسك والصندل، يتكون العطر من باقة من زهور الصيف من الياسمين والغاردينيا والقرنفل ذات الرائحة النفاذة. ويعد هذا العطر ساحرا، على الرغم من أن أكثر ما يرتبط به في أذهان الناس هو الزجاجة ذات المعنى الرمزي.
8 – «يوث ديو» (Youth Dew) من «إيستيه لودر» 1953 :
المتعارف عليه أن فرنسا هي موطن أكثر العطور الكلاسيكية، لكن عطر «يوث ديو» استثناء واضح. فقد كانت النساء الأميركيات في الخمسينات يتماهون مع صورة ربة المنزل المثالية، حيث كن يتأنقن لإرضاء الرجل، ونادرا ما تكون العطور الفرنسية الغالية متاحة لهن. ودفع هذا إيستيه لودر إلى التحايل على الأمر بابتكار عطر عرفت أنهن سيشترينه. كان عبارة عن زيت استحمام ذي رائحة نفاذة، ليكون مثل رائحة يتم دهنها على الجسم. حقق زيت الاستحمام المفعم بالحيوية نجاحا كبيرا، وتطور إلى أن أصبح عطرا حقيقيا. ويعد هذا أول عطر أميركي.
9 – «ديوريسيمو» (Diorissimo) من «كريستيان ديور» 1956:
كان الراحل كريستيان ديور، يتفاءل بزنبق الوادي، وبالتالي كانت تعويذته الخاصة والزهرة التي تجلب له الحظ. لم تكن أي عارضة أزياء تظهر على منصات عروضه من دون أن تتزين بهذه الزهرة الصغيرة وإن في مكان غير ظاهر. «ديوريسيمو» حقق نجاحا كبيرا مما جعل كثيرين يقلدونه، من دون أن ينجحوا، أهم ما يميزه أنه عطر من خلاصات زهرة زنبق الوادي، بالإضافة إلى أن السيد ديور طرحه بعدد محدود في قارورات من الكريستال مصنوعة في معامل باكارا مما يفسر سعره الذي كان يقدر بـ3178 دولارا.
10 – «أوبيوم» Opium «إيف سان لوران» 1977:
كان اختيار الراحل إيف سان لوران مادة مخدرة وغير قانونية كاسم لعطره، أمرا غير مسبوقا أثار حفيظة كثير من الناس، لكنه كان أكبر دعاية له، إذ أثار إليه الاهتمام، مما جعله أحد الأكثر العطور مبيعا على مستوى العالم، خصوصا أن مكوناته كانت أيضا جديدة. فكرة صناعة عطر شرقي غريب خطرت بذهن لوران خلال زيارة إلى الصين واليابان، وكانت العلب الخشبية الصغيرة التي يعلقها الساموراي في اليابان في أحزمتهم حيث كانوا يضعون حبيبات الأفيون مصدر إلهام له. وساعدت الإعلانات التي تظهر بها نساء في وضع مثير، الإبقاء على «أوبيوم» قريبا من أعين الناس.
11 – «باريس» (Paris) من «إيف سان لوران» 1983:
كانت الورود أكثر ما يحب إيف سان لوران في باريس. كان يعتبرها عاصمة الورود بقدر ما هي عاصمة النور. وعطر «باريس» هو عطر ورود كلاسيكي ذو رائحة نفاذة مع لمسة من زهرة السوسن والبنفسج والمسك. وظهر هذا العطر للمرة الأولى في عرض سان لوران في شتاء عام 1983 مع عارضات يحملن ورودا زهرية اللون على أذرعهن. عندما طرح عطر «باريس» للمرة الأولى في متاجر فرنسا، كان يتم رشّه على بتلات ورود حريرية ليجربها العملاء، وللاحتفال بالذكرى العاشرة للعطر عام 1993، تم زراعة وردة في باريس تكريما له.
12 – «جاردان دو باغاتيل» (Jardin de Bagatelle) من «غيرلان» 1983:
كانت الزهور والحدائق دائما مصدر إلهام لجون بول غيرلان، إذ صنع في حياته كثيرا من العطور المستمدة من خلاصاتها وعصاراتها، ويعد عطر «جاردان دو باغاتيل» واحدا من أكثرها سحرا. فهو باقة من الزهور البيضاء تجمع الغاردينيا بالياسمين والنيرولي والنارنغ ومسك الروم. وكما يدل اسمه، استوحاه مبتكره من حدائق الباغاتيل العامة التي تقع على أطراف باريس في غابة بولونيا، التي اعتادت ماري أنطوانيت التنزه فيها مع سيدات بلاطها. وكان سكان باريس يذهبون إلى هناك كل صيف للاستمتاع بالزهور.
تستمد الزجاجة الكلاسيكية للعطر شكلها من عمود في الحديقة يعود إلى القرن الثامن عشر.
13 – «كوكو» (Coco) كم «شانيل» 1984:
باستثناء عطر «كريستال»، كان هذا العطر هو أول عطر يتم صناعته منذ وفاة شانيل عام 1970. وتم إطلاق هذا الاسم على العطر تخليدا لذكراها. جاءت فكرته من شقة في باريس قضت فيها شانيل أكثر سنوات حياتها الأسطورية. وكانت الشقة على طراز عصر الباروك، بجدران يكسوها ورق من الذهب النحاسي وثريات كريستال ومنسوجات جدارية وأرائك من جلد الشامواه البيج ومجموعة متنوعة من الأشياء الثمينة العجيبة.
ويقدم العطر على أنه عطر شرقي لأنه غني لكن ليس نفاذا، يتكون من مزيج من الزهور أساسها العنبر. إنه عطر «شانيل» الوحيد الذي تحمل زجاجته بطاقة سوداء.
14 – «كلاسيك» (Classic) من «جان بول غوتييه» 1993:
مثل الأزياء التي يصممها، تبدو بصمة غوتييه واضحة على العطور التي تتحدى بجورها التابوهات والتقاليد. سعى المصمم في هذا العطر الإمساك بروائح طفولته، مثل رائحة مستحضرات تجميل جدته ورائحة مسحوق دقيق الأرز الذي يضعه الممثلون على وجوههم، التي تركت أثرها على نفسه منذ زيارته الأولى إلى المسرح. كان غوتييه يطمح في صغره أن يكون طاهي حلويات ودفعته كعكة الفانيلا التي كان يحبها وهو طفل إلى إدخال رائحة الفانيلا في صناعة عطوره. المثير في هذا العطر هو تصميم قارورته التي تمثل الجذع العلوي للمرأة تبدو فيه وكأن خصرها مشدود بكورسيه، علما بأنه ليس أول من صمم هذا الشكل. فقد استقاه من عطر كانت المصممة إلسا سكابيرلي قد صممته في الثلاثينات.