«الفن والموضة وجهان لعملة واحدة»، مقولة تتردد على مسامعنا كثيرا في الفترة الأخيرة، مع أنها ليست وليدة هذا العصر. فقد بدأت العلاقة بين المجالين وتوطدت في بداية القرن العشرين من خلال فنانين لم يروا فرقا بين إبداع لوحات بالريشة والكنفاس، وإبداع فساتين بالمقص والقماش.
المصمم بول بواريه، وهو واحد من أشهر مصممي تلك الحقبة، مثلا، كان يحيط نفسه بالفنانين ويتعامل مع العديد منهم، كما كان يقتني لوحات من الفن الانطباعي الذي لم يكن يتمتع بالتقدير في ذلك الوقت لأنه كان في بدايته. ومن أقواله الشهيرة، أي بواريه، قوله «لقد أحببت الرسامين دائما، ويبدو لي أننا نعمل في المجال نفسه، وأنهم زملاء المهنة». طبعا لم يكن بواريه المصمم الوحيد الذي عشق الفن وتعامل معه بحميمية، فالسيد كريستيان ديور قبل أن يصبح واحدا من أهم المصممين العالميين، كان يريد العمل في المجال الفني، وبالفعل افتتح معرضا صغيرا في عام 1928 كان يبيع فيه لوحات لفنانين من أمثال بابلو بيكاسو. ولولا تحول الأحوال المادية لأسرته وتعرضها للإفلاس، لما أغلق المعرض ولما أبدع لنا أزياء وإكسسوارات تحاكي اللوحات الفنية، أصبحت جزءا من حياتنا وتشكل أذواقنا إلى حد ما. طبعا صادق هو الآخر العديد من فناني عصره من أمثال جون كوكتو وبيكاسو وماكس جاكوبس وجورج أوريك وغيرهم، وهذا ما تحاول الدار أن تذكرنا به من خلال تعاونها مع الفنان الألماني أنسيلم ريلي، هذا العام، لطرح أزياء أو إكسسوارات تحمل بصمات فنية واضحة. مجموعة تجمع أسلوب الدار الفرنسية العريقة وأناقتها من جهة، وأسلوب ريلي، الذي يتميز بنقش «الكاموفلاج» والألوان المعدنية الصارخة والجريئة.
وغني عن القول، أن النتيجة كانت مجموعة حيوية تضج بالتميز، أزالت عنها الدار الستار خلال أسبوع باريس للموضة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وستطرح في الأسواق في بداية العام الجديد. ورغم أن معظمنا يعرف اسم «ديور» وأسلوبها، فإن البعض منا قد لا يعرف الفنان أنسيلم ريل أو أسلوبه. فهو قد يكون مشهورا لدى محبي الفن المعاصر ورواد المتاحف والمعارض، لكنه بالنسبة لعشاق الموضة يعتبر مفاجأة مدهشة واسما سيرسخ في ذاكرتهم بعد الآن. فهو صاحب أسلوب خاص يلعب فيه على المساحات والأحجام الكبيرة وألوان النيون، سواء تعلق الأمر بمنحوتاته أو لوحاته التجريدية، وربما هذا ما جعل تعاونه مع «ديور» مناسبا وناجحا. فالتزاوج بين أسلوبه هذا، الذي يمكن القول إنه أقرب إلى المستقبلي، وبين عراقة الدار وتصاميم حقائبها الكلاسيكية، أثمر قطعا يمكن أن تتحول إلى استثمار بعيد المدى، كما يمكن أن تكون إضافة تضخ المرح والحيوية في ألوان الشتاء القاتمة أو في موسمي الربيع والصيف.
لكن لا بد من التنويه هنا بأن هذه القطع ليست للمرأة التي تحب أن تمر مرور الكرام، أي من دون أن تثير أي انتباه، فكل ما فيها يصرخ بالحياة كما يقطر بالإبهار، بحيث تكفي قطعة واحدة منها لكي تضفي على زي قاتم الروح. ولحسن الحظ أن الخيارات كثيرة، فالمجموعة تضم حقائب يد بأشكال وأحجام مختلفة، وصنادل بكعوب عالية حتى تفسح المجال للمزيد من الإبداع وتوضح النقوشات، فضلا عن سلاسل وعقود وأساور وإيشاربات ونظارات شمسية. بل وحتى مستحضرات تجميل، عبارة عن 5 ألوان من طلاء الأظافر وظلال جفون متوهجة.
ما قام به الفنان، البالغ من العمر 31 عاما، أنه أخذ قطعا أيقونية من الدار مثل حقيبتي «ليدي ديور» (Lady Dior) و«ميس ديور» (Miss Dior) وأضفى على نقش الـ«كاناج» فيهما طابعا جريئا ومائلا، خصوصا عندما استعمله فوق النقوشات المموهة (الكاموفلاج)، علما بأن هذه الطريقة هي ما تميزه عن باقي الفنانين. فهو يتعامل مع أشياء موجودة أصلا كنقطة البداية ثم يقوم بتطويرها وتغييرها ليعطيها مفهوما جديدا، مستعملا النقش المموه، الـ«كاموفلاج»، الذي يعتبر جزءا من أسلوبه الخاص ويحضر في العديد من لوحاته بدل بياض الكنفاس، إلى جانب الألوان المعدنية.
الطريف، الذي يعترف به الفنان الشاب، أنه لم يهتم بالموضة سابقا، بل لم يكن يعرف من «ديور» سوى الاسم والشهرة، لكنه يبقى بشرا، فما إن ذاقها ودخل غمارها حتى استحلاها. ويشرح لـ«الشرق الأوسط» أن الفضل يعود في هذا إلى ديلفين آرنو، ابنة برنار آرنو، صاحب مجموعة «إل في إم إتش» التي تنضوي تحتها «ديور». فبحكم أنها كانت تعرف أعماله وأسلوبه، اقترحت عليه فكرة التعاون مع الدار. ولا ينكر أنه فكر مليا قبل أن يرد بالإيجاب، لأنه لم يكن يعرف الكثير عن الموضة ولم يتعامل معها من قبل، لكنه بعد أن فهم المطلوب استهواه العمل. يشرح «بالنسبة لي كفنان، كان مثيرا أن أقوم بعمل خارج نطاق المجال التقليدي للفن. وقبل هذا التعاون كانت (ديور) بالنسبة لي مجرد اسم لدار أزياء عالمية ومشهورة في مجال المنتجات المترفة، متميزة وكلاسيكية في الوقت ذاته، لكن لم تطأ قدماي أيا من محلاتها. وحتى الموضة لم أكن أعرف عنها الشيء الكثير سوى أن عددا من العاملين فيها يقتنون أعمالي. لهذا وبعد تفكير وجدت أنها فكرة جيدة أقرب إلى التحدي وعليّ أن أخوضها. والمفاجأة التي اكتشفتها أن لكل مجال معانيه وأدواته المختلفة مع وجود قواسم مشتركة كثيرة. الفرق أن الفن يتطلب في العادة شرعية أو مصداقية مستقلة عن التغيرات الزمنية، بينما تخضع الموضة لتغيرات المواسم والفصول».
وبالفعل، بعد عدة جلسات مع ديلفين آرنو، تبلورت فكرة أن يحافظ على إرث الدار من دون أن يتنازل عن أسلوبه. أي أن يستعمل تصاميم أيقونية كأساس ويضفي عليها بصماته، بدءا من الخامات إلى الألوان والنقوشات. ورغم أنه تلاعب على تقنية الـ«كاناج» التي تشتهر بها الدار وتعتبر من بين جيناتها الوراثية، فإنه كان تلاعبا خفيفا اكتفى فيه بوضعه في نطاق فني متوهج ومائل. أخذ أيضا نقوش الـ«كاموفلاج» وخلصها من إيحاءاتها المرتبطة بالملابس العسكرية وضخ فيها جاذبية ساطعة، شارحا أن «الـ(كاموفلاج) يستعمل في العادة للتمويه على شيء أو إخفائه، لكنه هنا مرئي وواضح لا ينوي الاختباء أو الاختفاء بل يشع بألوان النيون».
ورغم أنها المرة الأولى التي يدخل فيها عالم الموضة، فإن أنسيلم استمتع بالتجربة، ومستعد لتكرارها. فهو كما يقول يعرف عنها ويهتم بها أكثر من قبل. ولم لا؟ فالقواسم المشتركة بينها وبين عالم الفن كثيرة، مما يفسر إعجاب المصممين بالفن والفنانين بالموضة طوال القرن الماضي إلى يومنا، الأمر الذي أدى إلى ظهور وانتعاش مدرسة الباوهاوس في ألمانيا. وهي المدرسة التي مزجت الحرف المختلفة بالفنون الجميلة لتدخل الفن إلى الكثير من مناحي حياتنا.